
في صباح ارتفعت فيه درجات الحرارة والرطوبة وبدأت فيه الشمس حارقة، وكأنما تريد التعبير عن غضبها عما يدور بمدينة تحمل لقب عروس البحر من اقتتال أسال الكثير من الدماء وأزهق أرواح وشرد أسر وأشاع خوفاً وخلف غبناً،تحركنا ضمن وفد لجنة الحكماء بقيادة مساعد رئيس الجمهورية السابق موسى محمد أحمد الى غرب بورتسودان، حيث الأحياء التي تشهد مواجهات بين النوبة والبني عامر، وحينما وصل الوفد الذي تقدمته مركبة عسكرية تحمل على متنها جنوداً مدججون بالسلاح الى دار النعيم أحد الأحياء التي دارت في أجزاء منها مواجهات، تفاجأنا بتحوله الى منطقة مهجورة تنعدم فيها الحركة مع آثار واضحة لحرائق قضت على منازل كانت مأهولة بالسكان، والساعات التي قضيناها بغرب المدينة، كشفت لنا أن هذه الأزمة ألقت بظلالها السالبة على النفوس المحتقنة، وأن انقشاع سحبها يحتاج لجهود مكثفة من الحكومة والمجتمع.
نزوح وهدوء
بعد أن وصلنا الى حي دار النعيم الذي يعتبر واحداً من أكبر أحياء مدينة بورتسودان وأكثرها اكتظاظاً بالسكان، بدا لنا المشهد مختلفاً كلياً، لأنه حينما كنا نزور هذا الحي العريق في الماضي، كنا نجد صعوبة في الحركة بداعي وجود كمية كبيرة من السيارات، بالإضافة الى كثافة سكانه. ولكن أمس، كان أقرب الى أحياء المدن التي تدور فيها حروب او تلك التي تجتاحها كوارث طبيعية. فالشارع الرئيس الذي يعبر الحي من الشرق الى الغرب والذي كان ضاجاً بالحركة، بدا هادئاً وكل المحال التجارية التي تطل عليه أغلقت أبوابها وحتى حركة المواطنين كانت محدودة واقتصرت على تجمعات شبابية قليلة تجلس أمام مخبز وأخرى اختارت إحدى المظلات متكأ لها.
ونحن نرسل بصرنا خلف النوافذ الزجاجية للسيارة التي أقلتنا، وقع نظرنا على مشاهد بعضاً من المنازل التي تعرضت لحرائق جراء النزاعات، وقد تحولت الى ركام يدعو الى الحسرة والأسف. وبعد وصولنا الطريق الرئيس الذي يفصل بين دار النعيم وحي فلب، تكشفت لنا الأزمة ونحن نرى الدخان وقد غطى سماء حي الرياض، وفي ذات الطريق تقف أرتالاً من السيارات العسكرية التي تتبع للقوات المسلحة والاحتياطي المركزي، وقد انتشر الجنود بكثافة للفصل بين القبيلتين المتنازعتين، وذلك في أحياء الرياض، فلب ودار السلام وهي التي شهدت المواجهات الأخيرة وما تزال مسرحاً للكر والفر للمتفلتين، رغم أن 70% من الأسر بحسب إحصاءات غير رسمية اختارت النزوح بعيداً عن هذه الأحياء، فراراً من المواجهات وخطر الاعتداء والحرائق.
لقاء الحقائق
أمام أحد المنازل التي تطل على الطريق الرئيس الفاصل بين دار النعيم وفلب، توقفت عربات وفد لجنة الحكماء الذي دخل في اجتماع مع قادة القوات المرتكزة بميدان المواجهات لمعرفة آخر المستجدات على الأرض، ومن الملاحظات التي وقفنا عليها أن القوة يقودها ضابط برتبة لواء وهو بشير المهدي الذي أشار في الاجتماع الى أن هدف القوات العسكرية والشرطية الفصل بين الأطراف المتنازعة، مبيناً أنه ورغم تراجع حدة المواجهات، إلا أن صباح أمس شهد عدة حرائق لمنازل ومناوشات. ومضى الرجل في حديثه موضحاً أن القوة لاتتحرك الا برفقة وكيل نيابه لأنه هو المسؤول المخول له إصدار الأوامر،لافتاً الى أن القوة هدفها الأساسي منع الضرر والفصل بين المتنازعين، مشدداً علىي أنها في الحياد.
في ذات الاجتماع، حضر قائد الاحتياطي المركزي الاتحادي اللواء عزالدين الشيخ الذي سبقت حضوره الى بورتسودان قوة كبيرة من الاحتياطي يتجاوز عدد أفرادها السبعمائة. وأشار الى أن هدفهم الأساسي الإسهام في نزع فتيل الأزمة، قاطعاً بأن واجبهم الوطني والأخلاقي تدعيم التماسك الاجتماعي، معتبراً أي نزاع قبلي مهدد للأمن القومي.
ملاحظات لجنة الحكماء
على الصعيد الاجتماعي، فإن لجنة الحكماء التي تتكون من نظار وعمد القبائل وعدد من القيادات وعلى رأسها موسى محمد أحمد، ظلت تبذل مجهوداً مقدراً لنزع فتيل الأزمة وتبديد أجواء الاحتقان منذ الصراع الأول في شهر رمضان، غير أن عدد من أعضائها يؤكدون بأنه ثمة اخفاقات رسمية من الطرفين المتنازعين كان لها تأثير سالب على الأوضاع، وفي هذا الصدد فقد لفت رئيس اللجنة عمر أحمد درير في اللقاء مع القادة العسكريين الى أن القوات النظامية لعبت في النزاع الأخير دور إيجابي في الفصل بين الطرفين، غير أنه يعتقد بأهمية توقيف المتفلتين لبسط هيبة الدولة وسيادة حكم القانون، منوهاً الى أن الإدارة الأهلية للنوبة والبني عامر مطالبة بالتبليغ عن المتفلتين، كاشفاً عن وجود أطراف تعمل علي تزكية نيران الفتنة بين القبيلتين، مستدلاً على ذلك بظهور أفراد لا علاقة لهم بالولاية في بورتسودان خلال الأيام الماضية، معتقداً بأنه ثمة جهات تعمل على تقويض كل الجهود التي تبذلها القوات النظامية ومجلس الحكماء بتأجيج نيران الصراع.
أما مساعد رئيس الجمهورية السابق موسى محمد أحمد، فقد وصف الأحداث الأخيرة بالمؤسفة والعنيفة، مؤكداً على عدم وجود مبرر لها. وقال إن الجهود يجب أن توجه ناحية معالجة الوضع الكارثي على الأرض، مبيناً أن انتشار القوات وفصلها بين الأطراف المتنازعة كان له دور إيجابي، غير أنه يؤكد الحاجة الى نشر المزيد من الجنود، وقطع بأهمية فرض هيبة الدولة عبر تدوين بلاغات ضد الذين يرتكبون جرائم الحرائق والاعتداءات ورأى أنه من الأفضل أن « تمتلئ السجون بدلاً من أن تمتلئ المقابر بالقتلى». ويلفت موسى الى وجود تدخلات في الصراع وأن السيطرة على السلاح تحتاج لقوة وجهد كبيرين.
عودة وتأثير
عقب نهاية الاجتماع بين القادة العسكريين ولجنة الحلفاء، وحينما خرجنا من المنزل، وجدنا أن ثمة حرائق أخرى قد اندلعت بحي الرياض، بالإضافة الى مشاهدتنا لمناوشات بين الشباب من الطرفين وتحسرنا على ما يحدث لأن الشباب هم الذين قادوا التغيير في البلاد بشجاعتهم وبسالتهم واتفاقهم ولم يكن مقبولاً رؤيتهم بحي الرياض وهم يشتبكون في صراع قبلي باتوا ناراً تحترق بسببه بدلاً أن يكونوا رسل سلام وتوعية، فقررنا العودة الى وسط المدينة لحضور اللقاء الذي جمع الإعلاميين بوفد الحرية والتغيير، وقبل الإشارة إليه لابد من التأكيد على أن ما يدور بين النوبة والبني عامر، كان له تأثير سالب على واقع الحياة بالمدينة، خاصة على صعيد الخدمات والأوضاع المعيشية، حيث يشهد الخبز أزمة طاحنة، بالإضافة الى مياه الشرب. وتبدو الحركة بالسوق بطيئة نهاراً ومنعدمة ليلاً، بدواعي حظر التجوال الذي امتثل له المواطنون وباتت بورتسودان المشهورة بلياليها العامرة بالأنشطة الرياضية والثقافية والسياحية، مدينة يلفها الصمت ويطويها الحذر والتوجس، وباتت تنوم وتستيقظ على وقع الهواجس ، وقد سيطر عليها الحزن والخوف، ورغم ذلك فإن الحياة مستمرة. وللمفارقة وما يؤكد على أن النزاع الحالي يبدو مربكاً ومحيراً، فإن عدداً من أحياء المدينة تضم أعداداً مقدرة من النوبة والبني عامر، إلا أنها تشهد استقراراً أمنياً ومجتمعياً لافتاً، وأبرزها ديم النور،مايو،ام القرى والقادسية وديم سواكن وغيرها، حيث تعاهد أفراد القبيلتين على التعايش السلمي وعدم الانزلاق في مستنقع الاقتتال، على عكس ما يدور بين سكان أحياء دار النعيم، فلب والرياض. دهشة وتعجب على نطاق واسع فإن التعجب يعتبر هو الأكثر سيطرة على القيادات والمواطنين بالولاية. فناظر البني عامر دقلل أبدى في حديثه (للإنتباهة) دهشته من استمرار النزاع في بورتسودان لفترة طويلة واحتواءه سريعاً في ولايتي كسلا والقضارف، واصفاً الأمر بالغريب. أما ناظر الحباب حسن كنتيباي فقد حمَّل الوالي السابق المسؤولية كاملة، مؤكداً على أن الإدارة الأهلية بذلت جهوداً كبيرة في الصلح الأول، إلا أن الخطوات الحكومية كانت ضعيفة، بل ومعدومة. كما يؤكد، مبدياً تعجبه ودهشته مما يحدث معتبراً أن ثمة أمر يبدو غير طبيعي،أما القيادي بقبيلة النوبة الدكتور سعيد جلفور دبيب وهو ضمن وفد جاء من المركز، فقد أوضح الجهود التي بذلوها بمعية لجنة الحكماء ورأى أن إيقاف التفلتات يحتاج الى مزيد من الحزم الرسمي بالإضافة الى مواصلة الجهود الشعبية لقيادة الطرفين الى الصلح المستدام. فيما أبدى العمدة حامد أبوزينب دهشته من تطورات الأحداث عقب نجاحهم في إخماد الفتنة، وقال إن الأوضاع حتى تهدأ تحتاج لجهود مكثفة من الجميع.
التقرير الكارثة
كثير من الذين تحدثوا (للإنتباهة)، اعتبروا أن التقرير الخاص بتقصي حقائق أحداث رمضان، كان كارثياً وأنه لعب دوراً كبيراً في تجدد النزاع لرفض الطرفين له واعتبروا أن توقيت إعلانه لم يكن موفقاً لأنه جاء في فترة الهدنة. ورأى القيادي البجاوي عبد الله اوبشار ضرورة الاستعجال لتكوين لجنة مهنية لإجراء تحقيق شفاف وعادل، حتى يأتي مختلفاً عن سابقه أما ناظر جبال النوبة بالبحر ا?حمر مكين تية، فقد شكر لجنة الحكماء التي تسعى لرتق النسيج الاجتماعي وأكد التزام جميع قبائل النوبة.
وفيات وإصابات
على صعيد آخر، فقد كشف مصدر مطلع لـ(ا?نتباهة)، بإن عدد الوفيات بلغت 35 وأن ا?صابات تبلغ 310 وكانت وزارة الصحة بالبحر ا?حمر استقبلت جميع الحا?ت في عدد من مستشفيات الو?ية ووجهت بالعلاج والتنويم المجاني لجميع المصابين وكذلك العمليات الجراحية، غير أن الو?ية تشكو منذ فترة من ندرة الاختصاصيين خاصة في جراحة العظام. وكذلك يوجد شح في سيارات الإسعافات .
أدوار مطلوبة
من جانبه، أوضح رئيس جمعية الشحن والتفريغ العمدة حامد محمد آدم لـ(ا?نتباهة)، أن ما حدث في الو?ية من أحداث قبلية جاء نتيجة لضعف اللجنة ا?منية. وحمَّل الوالي السابق مسؤولية الفشل وعدم حقن الدماء، وقال حامد إن قبائل النوبة والبني عامر ظلت تعيش في سلام واستقرار واتهم أجهزة نظامية بالتباطؤ في حسم التفلتات،وطالب حامد اللجنة ا?منية بالتدخل لحسم وجود أسلحة.
الحرية والتغيير وكشف الحقائق
وبالتزامن مع وصول الوالي الجديد لبورتسودان طرح إعلاميون بالبحر ا?حمر مبادرة بمشاركة منسوبي قوى الحرية والتغيير متمثلة في وجدي صالح ومحمد حسن الشهير (بمحمد فولة) هدفت الى احتواء الأزمة إعلامياً وأسفرت المبادرة عن اتفاق بين الإعلاميين على أن تكون التغطيات الإعلامية للصراع القائم بين الطرفين من منطلق المسؤولية الإعلامية وأخلاقيات المهنة، بحيث تكون الرسائل الإعلامية داعمة للسلم الاجتماعي ومعضدة لجهود احتواء الصراع والمساهمة في تضميد الجراح ومحاربة الشائعات وكل ما من شأنه أن يؤجج الصراع ويوسع دائرته. وقال عضو وفد الحرية والتغيير وجدي صالح إن ما حدث جاء نتيجة ضعف الوالي ومدير جهاز الأمن السابقين،واتهم بقايا النظام البائد بتأجيج الصراع بين النوبة والبني عامر.
صديق رمضان – مرتضى كرار
صحيفة الانتباهة
Source: كوش نيوز