لدى غالب أمم وشعوب العالم أيام مشهودة بتحوّلات وظواهر غير مسبوقة، ولدى الشعب الأمريكي تحديدا كثير من هذه الأيام سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أم أمنية، يُضاف إليها يوم الأربعاء، السادس من يناير 2021م الذي وصفته “نيويورك تايمز” بأنه يوم أسود في تاريخ أمريكا.

في هذا اليوم اعتلى من وصفهم السناتور ميت رومني بالغوغاء مبنى الكابيتول وأحدثوا جروحا عميقة وتشوهات مريعة في جسد وروح الديموقراطية الأمريكية، وهي صورة بشعة أثارت التقزز لدى كل من شاهدها حول العالم، فأولئك الغوغاء لم يكتفوا بتخريب عملية ديموقراطية إجرائية وحسب وإنما أظهروا كل العورات التي يمكن أن تكون في ممارسة سياسية ترى تلك الأمة أنها نموذجية وتضغط دول العالم باتجاهها، بل وتحاسب وتعاقب عليها من منطلق كونها دولة عظمى.

وللحقيقة، كل شيء كان مثاليا في تلك الممارسة الديموقراطية العريقة، بداية من تسليم زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ السيناتور ميتش ماكونيل بخسارة حزبه للانتخابات الرئاسية، ونزاهة نائب الرئيس مايك بنس في حسم التصديق على فوز الرئيس المنتخب جو بايدن، وقبل ذلك الأداء النموذجي لسكرتير ولاية جورجيا، وغير ذلك من مواقف معلنة لعدد من مسؤولي الحزب الجمهوري.

الأمر الوحيد الذي كان غير نزيه ولا يتناغم مع الدستور والأعراف السياسية العريقة للمجتمع السياسي الأمريكي هو الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب، والذي تسبب في كل هذا العار الوطني والسياسي والدستوري، وأحرج حزبه وخسف بحظوظه بما أفقده مقعدي مجلس الشيوخ لولاية جورجيا ليخرج الحزب خاسرا كل شيء في هذا الموسم الانتخابي، فقط لأن رئيسه غوغائي ولا ينتمي إلى النخبة السياسية الأمريكية.

الكاتب الأمريكي غور فيدال كتب ذات مرة أن (نصف الأمريكيين لا يقرأ جريدة، نصفهم لا ينتخب رئيسا، نرجو أن يكون النصف نفسه) ويبدو أن النصف في حالة مناصري ترمب هو الذي لا يقرأ تلك الجريدة ولكنه للأسف انتخب الرئيس، فقد استغلهم ترمب بصورة إجرامية عكست الكثير من الفوضى التي أدار بها بلاده خلال سنوات حكمه.

في كل التجارب السياسية يظل الشعب دائما هو سيد مصيره، ولا يمكن لقائد أو زعيم أو رئيس أن يمتطيه أو يتلاعب به كحيوان سيرك كما فعل ترمب مع قلة من المتطرفين والمتعصبين الذين يتوافقون مع ما ذهب إليه روبرت كنيدي بقوله (في أي موضوع أو قضية ستقوم معارضة من 20% من الناس حتى لو لم يعرفوا ما هو الشيء الذي يعارضونه) فأولئك الذين صعدوا جدران الكابيتول لم يعوا حجم الدمار الذي يحدثونه في تقدير واحترام العالم لديموقراطية بلادهم، فقد سيطرت عليهم فكرة مركزية ظل يغرسها رئيس خاسر عن تزييف لإرادتهم وإيهامهم باستحقاق غير صحيح، وذلك ينجح حين يكون التأثير الاتصالي فعالا وقويا.

انحدر الرئيس ترمب بسلوك المواطن الأمريكي العادي إلى أسوأ نظم صناعة الرأي وأسّس دولة من الوهم داخل الدولة الأمريكية، وكان ذلك هو بعينه التحطيم المنهجي لأسس وقواعد الدستور والديموقراطية، وفي الجانب الآخر حيث بقي غالب الشعب المؤمن بدستوره وقيمته في ضبط وتنظيم العملية السياسية وتدوير الولايات الرئاسية بسلاسة كان الوجه الحقيقي للشعب الذي حافظ على النتائج واعتلى بالرئيس المنتخب أعلى المنصة السياسية، وبذلك نجح الشعب في السيطرة وحرمان الغوغاء من العبث بالمسار الديموقراطي.

ذات الأمر تمت مشاهدته بوضوح في إعادة السلطة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حين تم الانقلاب عليه في يوليو 2016م، وخرج الشعب بمعارضيه إلى الساحات ومواجهة الدبابات، وعاد الرئيس المنتخب. الشعب في الحالة التركية أيضا هو الذي صنع التغيير وحافظ عليه، ولم يسمح بأي اختطاف للحق الديموقراطي، ليس بالضرورة حبا في أردوغان وإنما محافظة على حق سياسي ووطني لكل مواطن، وحمايته من العبث به.

ونحن نرى هذه النماذج الماثلة لا بد من الوصول إلى قناعة سياسية راسخة وهي أن الشعوب هي التي تصنع القادة وتضعهم مواضعهم إن أحسنوا أو أساءوا. وكل أمة أو شعب لديها ثوابت وقناعات أو تصورات وطنية حول ماهيتها عبر التاريخ هي التي تبقيها صامدة ومحافظة على إرثها وتقاليدها السياسية والوطنية، فما من شعب في العالم إلا ويمتلك رؤى حول أفضليته على غيره من الشعوب، وهي مما يمكن أن تجده في أناشيدها الوطنية بكل زهو وفخر، وكذا عند الأمريكان والأتراك ولدينا في السودان أيضا.

الروائي العبقري ديستويفسكي يقول (نحن نعتقد أن الأمة الروسية ظاهرة استثنائية في تاريخ البشرية)، وغيره من أدباء ومفكرين وسياسيين حول العالم وصفوا شعوبهم وأممهم على ذات النسق، كما وصف الزعيم الأزهري الشعب السوداني وهو يطرد المستعمر الإنجليزي بأنه (الشعب المعلم). وذلك الزهو الشعبي ليس مجرد افتخار بموروث وإنما هو صناعة لواقع جديد لا يمكن أن يقبل بأي مشاريع استبدادية تعطل الحياة السياسية والاقتصادية.

الدرس الحاضر الآن من فلم ترمب السياسي أنه ما من قيادة على وجه الأرض أقوى من الشعب، ومن سوء الظن بأي شعب أنه يمكن تدجينه وإيهامه بممارسة ديموقراطية والتفاف على إرادته الوطنية وارتكاب الحيل كما فعل بنوا إسرائيل الذين تحايلوا على دينهم بالحيل. وفي حالتنا السودانية التي لم تنضج فيها الممارسة السياسية بعد، من المهم أن يقرأ سياسيو المرحلة الانتقالية المزاج السوداني بفطنة تعصمهم من الإزالة والإزاحة.

ليس بالإمكان العبث بأي تحوّل ديموقراطي، كما لم يعد بالإمكان أن يتاجر السياسيون بطموحات الشعب وتضليله. وكما تم الانكفاء بتجربة النظام السابق فليس أسهل من كف أيدي غير الناضجين من مزاولة أو ممارسة العمل السياسي الذي يحتاج إلى كفاءات تقلل من الأضرار التي يمكن أن تلحق بالدولة بسبب ضعف الخبرة والاندفاع.

سواء من خلال التجربة الأمريكية الأخيرة أو الوطنية السابقة فإن الشعب هو صاحب القرار، وليس ذكيا أن يأتي أصحاب البرامج السياسية الحزبية لتمريرها وطنيا وباسم الثورة فذلك مكشوف، ولا أحد يجرب ما هو مجرب إلا أن يكون بلا عقل أو رؤية، لذلك تسقط الحكومات ولا تسقط الشعوب، ويسقط المستبدون وتبقى تلك الشعوب، ما يعني أن يدع سياسيو بلادنا الفترة الانتقالية تمر بسلام وبأقصر الطرق فإنها فترة تكشف السوء وتهتك الأستار وتفضح النيات، ثم لا تستر العورات.

 

 

About Post Author