
رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك أصدر قراراً بتجميد العمل بمقترحات المناهج وتشكيل لجنة وصفها بالقومية للعمل على إعداد مناهج متوافق عليها.
و كان الوسط السوداني مؤخراً قد شهد جدلاً واسعاً حول مقترحات المناهج وصلت حد الاحتقان بين الأطراف المؤيدة والمعارضة، في الوقت الذي وصف د.حمدوك هذا الحراك الاجتماعي والنقاش حول المناهج وتطويرها بإحدى ثمرات ثورة ديسمبر، واصفاً إياها بانها فتحت الأبواب لإمكانية الحوار الاجتماعي الديمقراطي الإيجابي .
من جانب آخر انقسمت آراء الشعب السوداني حول قرار رئيس الوزراء تجميد العمل بالمناهج، ورأى البعض في ذلك ما أسموه انتصارا لجماعة الهوس الديني وطالبي السلطة عبر الدين، وانه خذلان لارادة الثورة وضعف موقف، بينما رأى آخرون أن موقف دكتور عبدالله حمدوك يكشف عن حكمة وذكاء ودهاء في التعاطي مع قضايا أراد لها فلول النظام شق الصف الوطني وإضعاف موقف الحكومة الانتقالية.
على الصعيد الشخصي يذكرني موقف رئيس الوزراء بقصة أمير المؤمنين معاوية بن ابي سفيان مع عبد الله بن الزبير، (و اللبيب بالإشارة يفهم ).
قيل كان لعبد الله بن الزبير أرض متاخمة لأرض معاوية بن أبي سفيان، قد جعل فيها عبيداً له من الزنوج يعمرونها، فدخلوا على أرض عبد الله، فكتب إلى معاوية : أما بعد يا معاوية فامنع عبدانك من الدخول في أرضي وإلا كان لي ولك شأن.
فلما وقف معاوية على الكتاب “كان آنذاك أمير المؤمنين فدفعه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه قال له :يا بني ما ترى؟ قال :” أرى أن تنفذ إليه جيشاً أوله عنده وآخره عندك، يأتوك برأسه، قال أو خير من ذلك يا بني؟، علي بدواة وقرطاس، وكتب :”وقفت على كتاب ابن حواري رسول الله، وساءني ما ساءه، والدنيا بأسرها عندي هينة في جنب رضاه، وقد كتبت له على نفسي صكاً بالأرض والعبدان، وأشهدت على فيه، فليستضفها مع مع عبدانها إلى أرضه وعبيده والسلام”.
فلما وقف عبد الله بن الزبير علي كتاب معاوية كتب إليه :”وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام”.
فلما وقف امير المؤمنين معاوية على كتاب عبد الله بن الزبير رماه إلى ابنه يزيد، فلما قرأه أسفر وجهه، فقال له :يا بني إذا بليت بمثل هذا الداء فدواه بمثل هذا الدواء.
عندما نتأمل القصة، نتوقف أولاً على اللهجة الساخنة التي استخدمها عبد الله بن الزبير مع أمير المؤمنين آنذاك معاوية بن أبي سفيان بجلالة قدره.
و من زاوية أخرى يستوقفني رأي يزيد ابن أمير المؤمنين عندما سأله أبوه :يا بني ما ترى، فما كان من الابن إلا أن طرح حلا سياسيا عنيفا رداً على الأسلوب الذي اعتبره تطاولاً على أمير المؤمنين.
و من ثم كان خطاب أمير المؤمنين، هذا الخطاب السياسي الذي صار أنموذجاً يحتذى به ويدرس في أعظم الجامعات، باعتباره خطابا سياسيا عبقريا، يعكس فنون العبقرية السياسية، والصفات التي يجب أن يتمتع بها القيادي الناجح من صبر، وحكمة، ومرونة في التعامل في أصعب المواقف ومع أصعب الشخصيات، وصفة التسامح، والقدرة على التحكم في النفس وامتصاص غضب الآخر بكل حكمة.
و الصدق والشفافية التي تبرهنها الأعمال وليس الأقوال، و تقبل الآخر المختلف معك سياسياً وفكرياً فمن المعروف أن عبد الله بن الزبير لم يكن يعترف بأمير المؤمنين معاوية وخلافته.
و من جانب آخر نلاحظ أن خطاب أمير المؤمنين لعبد الله بن الزبير وكلماته المستخدمة، كانت كلمات حكيمة، لطيفة، متسامحة، دالة على مدى احترام أمير المؤمنين لأفراد رعيته من مؤيدين ومعارضين على حد سواء وتقديره لهم، والأهم من ذلك زهده في نعيم الدنيا وترفها لذلك كان قراره بإعطاء أرضه وعبيده للزبير، فهذا النوع من القادة يفكرون في القيادة الرشيدة الحكيمة العادلة أكثر من تفكيرهم في المال والجاه واتخاذ قرارات الانتصار للذات والأنا.
لهذا خلد التاريخ السياسى والإنساني هذا الموقف الحكيم لمعاوية وما زال خطابه خالداً يعبر عن حكمته وسياسته العبقرية وقيادته الرشيدة .
و من ثم يتبين لنا أن هذا الخطاب السياسي العبقري الذي أثلج قلب عبد الله بن الزبير كانت ثماره السياسية، اعتراف عبد الله بن الزبير بشرعية معاوية بن أبي سفيان كأمير للمؤمنين، وهو يثني على حكمته ويؤكد أن اختيار قريش له كان صائباً .
و من خلال هذه المواقف السياسية العقلانية الحكيمة لمعاوية بن أبي سفيان، يتضح لنا أن مجتمعنا السوداني في حاجة ماسة إلى مثل هذا النوع من القيادة الرشيدة الحكيمة التي نعول عليها في إحداث تغيير جذري، فالخطاب السياسي العنصري لبعض القيادات السياسية يولد الأحقاد والفتن ويعمق الجروح، ويُحدث النزعات القبلية، ويزيد الشق بين أبناء الوطن الواحد ويفرق ولا يجمع، والمرونة والحكمة في التعامل مع المؤيدين والمعارضين لأي قيادة سياسية مهم جداً كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، ومهارة الوسطية عند تنافر الآراء والأفكار واحتدام النقاش هي مهارة على القائد السياسي الحكيم أن يتقنها حتى يتمكن من إحداث التوازن المطلوب، لأن عمل القائد السياسي يدور حول هذا المحور ( شؤون الوطن والمواطنين) بمختلف آرائهم وأفكارهم وتوجهاتهم، ونقد الذات هو أول خطوة نحو النجاح ، وارساء قيم إحقاق العدالة والمساواة، واحترام حرية الرأي والتعبير التي هي أبسط الحقوق وعدم كبتها.
و في ذات الوقت نبذ ورفض اي محاولة لمحاولات اغتيال كل من له رأي أو فكر آخر لانه نوع من الإرهاب والاضطهاد الفكري والاستعباد، فالعبودية ليست هي عملية الرق فقط بل هي مجمع واسع، العبودية أشكال وأنواع.
و مقولة (السياسة فن الممكن) لا تعني ممارسة القذراة والخباثة في طرق وأساليب اغتيال الطرف الآخر، السياسة ليست خباثة ولكن محور إنساني لتغيير حياة الفرد إلى الأفضل وإرساء تعاليم التسامح والتعايش السلمي وتعزيز ثقافة الحوار والسلام العالمي.
و أختم مقالي هذا بأن الحكمة في القيادة السياسية مهمة جداً، الحكمة ضالة المؤمن فخذ الحكمة ولو من اهل النفاق، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.